في سنة 1986 كنت مديرا لواحد من ثلاثة مراكز غوص لا رابع لهم في شرم الشيخ (نعمة)، وهو مركز غوص “الرد سي” الملحق بفندق مارينا شرم، فلم يكن المركز الرابع (مركز غوص الجمل) قد افتتح حتي النصف الثاني من 1987، ومركز الرد سي كان مملوكا لشركة سيناء للفنادق ونوادي الغوص التابعة للمخابرات العامة، وكذلك المركزان الآخران “أكوا نوت” تحت إدارة رولف شميت الألماني، ومركز “أكوامارين” تحت إدارة آلان سوبول البلجيكي.
المركب شمس
وفي هذا الوقت كان عدد مراكب الغوص في شرم الشيخ ثلاثة فقط، أولهم وأكبرهم “أبو حارا” الحديدي ويعمل تحت إدارة أكوانوت، وثانيهم وأصغرهم “توم” المصنوع من الألومنيوم ويعمل مع الأكومارين، أما الثالث فكان “شمس” وهو مركب سويسي خشبي طوله 14 متر خارج من عمرة بالموتور، والمفروض أننا كنا نجربه في مركز الرد سي استعدادا لتشغيله لتنفيذ غوصات مضيق تيران فقط، حيث أن باقي الغطسات بما فيها راس محمد كانت تتم بالسيارة.
جلاس بوت
وفي أحد الأيام دخلت علينا مقطورتان عظميان تحمل كل منهما جلاس بوت حديدي قد تم تصنيعه في شركات المقاولون العرب في المعصرة بحلوان لصالح شركة سيناء، واستلزم إنزالهما علي شاطئ خليج نعمه بالإستعانه بونش كبير، حيث أن وزن الواحد منهما كان 8 أطنا، وتم إبلاغي بأن أحدهما سيبقي في الشرم لأقوم أنا بتشغيله، أما الآخر فيخص مركز الغوص الوحيد بدهب، والذي بالطبع تملكه نفس الشركة، وكان سيبقي حيازتنا حتي يتم نقله لاحقا إلي دهب.
ولكن بعد أيام من وصولهما صدرت تعليمات الإدارة أن أقوم أنا شخصيا بجر الجلاس بوت من خليج نعمه إلي دهب عن طريق البحر باستخدام اللنش شمس، ورغم عدم تأكدنا من جاهزية اللنش، ورغم أن الريس الذي تم تعيينه عليه من أسابيع قليلة “أحمد الخطيري”، لم يكن قد عمل قط في شرم الشيخ من قبل، ولا يعرف الطريق البحري إلي دهب، فإني امتثلت للأوامر لأني كنت مغامرا بطبعي، وأيضا لكوني مدير الغوص المصري الوحيد آنذاك فكرهت أن يقال إني خفت أو تقاعست.
شيخ الصيادين
وتم تعيين الريس “نويجع” كمرشد لنا في البحر، وهو شيخ الصيادين في الطور وكان في أواخر الخمسينات من عمره، وهو صديق لي ووالد “جامع وجمعه وجميع” الذين كانوا يعملون في المنطقة في الصيد والسياحة وعلي علاقة طيبة بالجميع، وفعلا اتفق ثلاثتنا علي الخروج فجرا باللنش شمس قاطرين الجلاس بوت إلي دهب، وبين لنا الريس نويجع أن التبكير في الخروج مهم لأن الريح في مدخل خليج العقبة (مضيق تيران) يكون محتملا عند الفجر، ثم يشتد فيصير العبور شمالا شاقا خطيرا خصوصا مع وجود مثل هذه ال”تهمة” المربوطة خلف اللنش، وعليه فقد أعددنا زادنا وزوادنا وبات الجلاس بوت منذ الليل مربوطا بعناية من مقدمته الحديدية بحبلين قد ربط طرف كل منهما الآخر بإحدي الشمعات الخلفية باللنش شمس.
اليوم الأول
وحيث أنني كنت أسكن في هضبة الشرم، فقد كنت السبب في تأخير اللنش عن التحرك من نعمة في موعده المحدد بأكثر من ساعة، ومن المعروف لمن عمل أو غطس في المنطقة أن البحر امتدادا من نعمة إلي نصراني يكون هادئا والإبحار فيه سلس مهما كان حال الجو، فاطمئن قلبي إلي الرحلة ككل وصرت أستبشر بإتمام المهمة والعودة إلي الشرم مساء نفس اليوم. ولكن عند تجاوز راس نصراني تبدل الحال فصار غير الحال، فقد انفتح الخليج وأصبح الريح عاصفا فاقترح الريس الرباط علي عرق “جاكسون”، وهو من أماكن الغطس المعروفة بتيران، إلي أن تقل سرعة الرياح بمرور الوقت عسي أن نتمكن من المتابعة شمالا.
تناولنا الرباط الوحيد به ثم مكثنا ساعة وبعض الساعة ولكن الأمر لم يتبدل ولم نستطع اتخاذ قرار واضح، ولكن دخول مركب الغوص توم وعليه العزيز أيمن صلاح طاهر علينا للرباط والغوص لم يدع لنا خيارا فاضطررنا إلي ترك الرباط الوحيد له ومتابعة الرحلة راجين من الله أن ييسرها لنا، وما أن عبرنا المضيق شمالا حتي اصطدمنا بأمواج عاتية ترفع المركب وتحطه ومن ورائه الجلاس بوت يتمايل ويتراقص ونحن ننظر إليه مترقبين بينما لم يدع الريس نويجع الدومان من يده لحظه.
البحر المفتوح
ولما كانت منصة القيادة داخل الكابينة، فقد اضطررنا إلي إبقاء الزجاج الأمامي مفتوحا للرؤية، مما جعل الريح مع الكثير من رذاذ الماء ينفذ ويصطدم بوجه الريس، ولم نملك أنا أو الخطيري إلا أن نراقب بعجب إصرار وعزم هذا الشيخ علي رياسة اللنش مع قصر هامته وضآلة حجمه. وبمرور الوقت ونحن نراقب الريس تارة والجلاس بوت تارة إكتشفنا أننا لا نتحرك من مكاننا، فما زال الجاكسون مرئيا بعد ثلاث ساعات وقد قطعنا ما لا يزيد عن ثلاثة أميال بحريه، وفجأة حدث ما لم يكن في الحسبان، فقد انقطع أحد الحبلين من مقدم الجلاس بوت، فجاء رد الفعل الطبيعي مني ومن الريس أحمد وهو أن أمسكنا بالحبل الآخر نجذبه لتقريب الجلاس لإعادة إحكام رباطه، جاهلين أن تقارب اللنشين في مثل هذا البحر العاصف سوف يؤدي بالضرورة إلي كارثة تحيق بأحدنا أو باللنشات.
الميناء
وفجأه انقض علينا الريس نويجع تاركا الدومان فدفعنا جانبا وقذف بنفسه في هذا البحر العاصف سابحا إلي الجلاس بوت، وفي حركة بهلوانيه لم أكن أتصور أن تصدر من مثله وضع بطن كوعه علي مقدم الجلاس عند نزوله فرفعه الجلاس بوت فأصبح علي ظهره، وقام سريعا بإعادة رباط الحبل المقطوع ثم قفز في البحر عائدا إلينا، فأنزلنا السلم وانتشلناه فتركنا وجري عائدا إلي الدومان كأنه لا يثق إلا في نفسه وقيادته. لم أملك إلا أنني فتحت فمي دهشة وإعجابا وأذكر أني لم أقفله إلا بعد مدة، وبعد ساعة أخري أيقن الريس، وبالطبع وافقناه، أنه من العبث الإستمرار في هذه المحاولة الفاشلة.
قررنا البحث عن مكان مناسب للإحتماء والمبيت وفعلا دخلنا ناحية البر ووجدنا مكانا مناسبا سماه الريس “مينا” وألقينا مخطافا ثم قربنا الجلاس فنزحنا منه الماء المتراكم ولم يكن بالقليل، ثم ما لبث أن جن علينا الليل فالتمسنا طعاما وتهيأنا للنوم، ولعجبي فإن الريس نويجع قد أمضي ليله نائما علي مقدم اللنش ممسكا بحبل المخطاف تحسبا لأي جر أو خلل في الرباط أو الحبال.
اليوم الثاني
وفي صباح اليوم الثاني استأنفنا الرحلة في ظروف مطابقة ونتائج مماثلة فلم نتحرك كثيرا في ساعتين وقررنا العثور علي مينا أخري والإنتظار حتي تهدأ العاصفة ولو أياما فلم يكن إتمام المهمة في مثل هذه الظروف ممكنا، ولكني في هذه المرة قد أصابني الضجر فقررت القفز في الماء والسباحة إلي البر والعودة إلي عملي في الشرم، ولم تكن بالفكرة الصائبة، فقد انتهي بي الأمر في “النبق”، وكان وقتها مكانا مهجورا لا يحتمل أن تري فيه كائنا، فلم أملك إلا أن أمشي علي مدق يتجه إلي الجنوب.
وبعد ساعتين من المشي وفي مكان يسمي “مدافع عبد الناصر” حدثت المعجزة، وظهرت سيارة ربع نقل زرقاء تابعة للشرطة جاءت من خلفي تسير في نفس الإتجاه، ولما قصصت عليهم القصص تكرموا باصطحابي إلي فندق مارينا شرم، وطبعا لقيت الدنيا مقلوبه فلم يكن جهاز اللاسلكي علي اللنش يلتقط أو يرسل أي إشارة إلا إشارة واحدة مبهمة إلتقطها مركزنا للغوص، قال فيها الريس أحمد “الدكتور نط في البحر” وانقطع الإرسال، فصار كل المعنيين يضربون أخماسا في أسداس مترقبين.
اليوم الثالث
في اليوم الثالث تحسن الطقس فقام الريسان بقيادة اللنش بنجاح إلي دهب، واتصلا بي من هناك فذهبت بالسيارة إلي دهب حاملا بعض الأطعمة لهما، وتم تسليم الجلاس بوت إلي العزيز محمود حلمي رحمه الله، وكان مدير مركز الغوص بدهب، وتأكدت من تحرك اللنش شمس راجعا إلي الشرم في رحلة رجوع سهلة قد حرمتها لاضطراري إلي العودة بالسيارة إلي شرم الشيخ.
كان هذا أول عهدي بركوب البحر المفتوح، التي لم أكن أتصورها في مجال الغوص الترويحي نظرا لعملي في منطقة شرم الشيخ التي تشبه حمام السباحة. وكانت الرحلة من العوامل التي ساعدتني علي التكيف للعمل في البحر عندما انتقلت إلي الغردقة والجنوب حيث تكون الظروف مشابهة في معظم الوقت!
بارك الله فيك وفى أسلوبك فى أنتقاء الألفاظ الجميله فى سرد المغامرة لن أقول قصة لأنها واقع ملموس وأعلم جيدا كيفية الحياة فى البحر المفتوح بحكم عملى السابق فى مجال أصلاح السفن فى بحار الوطن وبحار دول أخرى
كم نحنن فى أشتياق لسماع مغامراتك وأن كان بعضها سمعناه من قيل ولك نعيد قرأتها للأستمتاع بمخيلتنا عما كانت المغامرة
بارك الله فيك وكم أود أن نلتقى أن شاء الله فى القريب العاجل
تحياتى
عصام فهيم
بارك الله فيك وفى أسلوبك فى أنتقاء الألفاظ الجميله فى سرد المغامرة لن أقول قصة لأنها واقع ملموس وأعلم جيدا كيفية الحياة فى البحر المفتوح بحكم عملى السابق فى مجال أصلاح السفن فى بحار الوطن وبحار دول أخرى
كم نحنن فى أشتياق لسماع مغامراتك وأن كان بعضها سمعناه من قيل ولك نعيد قرأتها للأستمتاع بمخيلتنا عما كانت المغامرة
بارك الله فيك وكم أود أن نلتقى أن شاء الله فى القريب العاجل
تحياتى
عصام فهيم