في عام 1993 قابلت أحد أصدقاء العزيز عمرو أبو الفتح في شرم الشيخ ولن أذكر اسمه هنا، وكان هو وبعض أقرانه يعملون في مزارع أحد رجال الأعمال المصريين التي يمتلكها في موزمبيق، ووصف لي جمال الطبيعة هناك ولما علم أنني كنت أتطلع دائما إلي زيارة تلك الأماكن فقد أصر ذلك الصديق علي أن أزورهم في مقر الشركة بجوهانسبرج بجنوب أفريقيا إذا ما كنت هناك، وبالفعل تشجعت فخططت أجازة لمدة أسبوع أزور فيها كيب تاون والإخوة المصريين في جوهانسبرج، ثم أزور ناميبيا التي سمعت عنها كثيرا.
الزيارة الأولى
نزلت في كيب تاون وقضيت بعض الأيام، ثم قررت أن أستقل الباص (وما أجمله) إلي جوهانسبرج والعودة في نفس اليوم وهي مسافة طويلة ومكلفة حتي أحقق وعدي لهذا الصديق، والحقيقة أنني كنت وقتها بدأت أفكر في الإنتقال والعمل خارج مصر، وصلت إلي جوهانسبرج واتصلت بالصديق الذي (إتخض) أنني فعلا هناك، وأعطاني عنوانا مبهما تهت فيه قليلا وأخيرا وصلت إلي استراحة الشركة في ضواحي جوهانسبرج فوجدت الخادمة الداكنة البشرة بمفردها وصدق أولا تصدق، لقد اختفي الأصدقاء جميعا!
مكثت ساعة أنتظر تداعت أثنائها ذكريات تجاربي السابقة عن ندالة بعض المصريين في الغربة، ولما أيقنت أنني قد “إتحلقلي” غادرت قافلا إلي كايب تاون وهي تعد أجمل مدينة في العالم، ثم نظمت رحلة إلي ناميبيا زرت فيها العديد من الأماكن أبرزها حدائق إيتوشا المفتوحة التي تتجول فيها بالسيارة وسط الحيوانات وانتهت أول زياراتي لتلك المناطق الخلابة التي يتعلق بها قلب المرء فلا ينساها.
الزيارة الثانية
في عام 94 قررت إدارة شركة سي ستار أن تحاول فتح أسواق جديدة لسياحة الغوص ومنها جنوب أفريقيا ففيها عدد لا بأس به من الغواصين، تم تعييني للمهمة وبالاشتراك مع شركة من شركات السياحة المصرية التي تعمل هناك تم حجز جناح في معرض جوهانسبرج للغوص وهو يشبه نظيره في برمنجهام بانجلترا ولكنه أصغر، طلبت من المدربة سيمون التي كانت تعمل معنا قبل سنتين في شرم الشيخ، وكانت تقيم مع زوجها في كيب تاون، أن تحضر إلي جوهانسبرج للمساعدة في المؤتمر، وبدورها نظمت لي سيمينار في أحد مراكز الغوص في كيب تاون أقوم فيه بالتسويق لشرم الشيخ عن طريق عرض شرائح ملونة من تصويري، وكانت الخطة أن أطير من القاهرة إلي جوهانسبرج وبعد المعرض أستقل السيارة مع سيمون وزوجها إلي كايب تاون وبعد السيمينار أطير إلي جوهانسبرج ثم بالطائرة راجعا إلي القاهرة، بدأت الرحلة وقد اصطحبت معي بدلة الغوص فقط مع الكاميرا نيكونس 3 بعدستها المنفرجة لأني كنت أخطط لعمل غطسة في القفص في كايب تاون مع القرش الأبيض العملاق.
كانت مدة المعرض يومين فقط وكنت أسلي نفسي بالتجول بين الأجنحة ومعظمها للتسويق الداخلي للغطس في جنوب أفريقيا، فكنت لا أري علي فيديوهات الدعايا إلا قروشا من جميع الأنواع التي أعرفها والتي لا أعرفها، وفي أحد المرات وقفت لأسأل أحد المدربين فقال إنهم في منطقة في الجنوب من “ديربن” علي المحيط الهندي، وإنني إذا غطست معهم في منطقة (Aliwal Shoal) فهو يضمن لي رؤية القروش المعروضة بالفيديو، فسألت عن السعر فأعطاني عرض لم أحلم به، الغطسة مجانية لأنني زميل ولكني سأدفع المعدات، سجلت اسم المركز “Whaler” وصرت أفكر وفي غضون ساعات تغيرت الخطة تماما، سأقوم بإرسال أمتعتي مع سيمون إلي كيب تاون، وأذهب للغطس في ديربن، ثم أستقل الباص من هناك إلي كيب تاون وأقوم بعرض الشرائح وإكمال الجدول المخطط له، وزاد من اصراري أن الحظ قد ابتسم لي بأني تلقيت عرضا للإنتقال والإقامة المجانية من “كريج وود” الذي كان يقوم بعرض باراشوتات للرفع من تحت الماء في جناح مجاور في المعرض، وكان يسكن علي الساحل جنوب ديربن ببضعة أميال.
رحلة غوص في المحيط
إنتظرت نهاية المعرض (الممل) بفارغ الصبر وانطلقت مع السيد وود بسيارته البي إم التي كانت تجمع وقتها في بورت إليزابيث بجنوب أفريقيا، وفي بضع ساعات وصلنا إلي ديربن في جو عاصف شديد الريح، وفي أثناء توجهنا إلي منزله علي ساحل المحيط مررنا بمركز Whaler علي الشاطئ والذي يمكن رؤيته من الطريق السريع ويقع في منطقة إسمها (Um Comas bay)، قضينا الليل في منزله أساعده في تصنيع ولزق الباراشوتات وبدأت أفهم لماذا كان مصرا علي استضافتي!
وفي الصباح الباكر إتصلنا بالتليفون بمركز الغطس فاعتذروا لسوء الأحوال الجوية فقررت النزول مع كريج فهو يعمل في ديربن ويقود السيارة إليها كل صباح، انطلقنا بالسيارة علي طريق الساحل شمالا إلي ديربن والريح يتلاعب بها بشكل لم أره في حياتي ومررنا بمركز وايلر الذي كان مغلقا وأخيرا أنزلني من السيارة في وسط المدينة واتفقنا ن يلتقطني في ساعة معينة من نفس المكان، لم أجد أحدا بالشوارع وكنت أصارع الريح لأتقدم خطوات فقبعت في مكاني حتي عدت معه إلي المنزل يائسا فلم تكن تلك هي الأجازة المرتقبة، قضينا جزءا لا بأس به من الليل في تجميع الباراشوتات وفي صباح اليوم التالي بدا الجو أحسن (لهم وليس لي) فقام كريج بالإتصال بمركز الغطس وكانت البشارة، فهناك غطسة صباحية، وضعت ملابسي مسرعا واصطحبت بدلتي والكاميرا ونزلت في الطريق عند مركز الغوص حوالي السادسة صباحا وأنا أعتقد أن الجو لم يتحسن كثيرا.
الغوص مع القرش
نشاط الغوص في ديربن وقتها لم يكن سياحيا بأي حال، يقوم الغواصون المحليون بالغوص في الصباح الباكر ثم يتجه كل لعمله في موعده، ولم يكن مركز الغوص يستطيع امتلاك قارب، فكان المركز ينتظر حتي يقوم ستة أفراد أو أكثر بالحجز مسبقا فيتصل بمالك القارب الذي يتواجد بقاربه في الصباح التالي ويقوم هو بقيادته بينما يوفر المركز المعدات والمرشد، وأحسب أن ربح الغطس لم يكن وفيرا، شاهدت قاربا مطاطا (RIB) عليه ماكينتان تجره سيارة “لاند روفر” هي أيضا مجمعة في جنوب أفريقيا، وتم إنزاله علي الشاطئ بالقرب من البحر, كنا 8 غواصين ومعنا مرشدة أسترالية، قمنا بتحضير المعدات في المركز واتبعنا التعليمات بوضع المعدات علي القارب، إعتلي القائد القارب وأمسك بالدومان ثم أشار إلينا أن ندفعه ناحية البحر أربعة من كل جانب علي أن نحرص علي جعل مقدمته في موجهة الأمواج دائما، وصلنا إلي حافة البحر بحيث صار الماء يغطي ركبنا، وكانت كل موجة بلا مبالغة تغطي القائد حتي رأسه وطبعا كل القارب والغواصين، في لحظة صاح القائد أن اقفزوا سريعا فقفزنا وصار يناور ببراعة لم أرها من قبل ليتمكن من الخروج من منطقة السيرف (إنكسار الموج) فكان يجري سريعا بمحاذاة الشاطيء ثم يتوقف ويستدير ليقابل موجتين متلاحقتين أو ثلاثة ثم يعود يجري في الإتجاه الآخر وهكذا، وبعد حوالي ربع الساعة كنا خارج الكسارة وصرنا في منطقة ال “Swell” التي جعلت معظم الغواصين يتقيأون، وفي الطريق رأيت شيئا غريبا يبرز من تحت الماء عن بعد حسبته أول الأمر قاربا، فلما اقتربنا إذا به ذيل حوت أحدب يلد جنينا، فآثر قائد القارب أن يتجنبه وأكملنا مسيرنا حتي وصلنا إلي موقع الغطسة، ولا أدري كيف عرف القائد أن هذا هو الموقع فلم يكن هناك أي شيء يميزه ولم تكن ال GPS قد تم تداولها، ولكننا كنا فوق “كهف الراجيز” (Ragies Cave) ولمن لا يعرف فكلمة الراجي هي اختصار (أو دلع) لنوع من الأقرش يدعي (Ragged tooth shark) أو (Sand Tigers) أو (Grey nurse shark) وهو قرش يصل طوله إلي 3 أمتار ويتميز ببروز أسنانه خارج فمه بطريق عشوائية مخيفة.
قبل النزول إطمأن القائد أن كل من الغواصين يحمل علي الأقل شهادة (NAUI open water 2) فكانت PADI لم تدخل جنوب أفريقيا بعد للتفرقة العنصرية هناك، وكانت تعليمات القائد أن نكون جميعا دائما بجانب المرشدة التي تتحرك بال SMB (عوامة) من أول الغطسة، وفي آخر الغطسة يصعد الغواصون بمعدل غواص واحد في المرة فيقوم القارب بانتشاله، وأكد علينا أنه في حال الإنتظار علي السطح فيستحسن ألا يترك الغواص رجلاه مدلاة لأسفل لأن القروش (لا تحب) هذا المنظر!
قمنا بالغطس في رؤية أفقية لا تتجاوز ال15 متر وعند القاع علي حوالي 20 متر رأيت منظرا غريبا، رأيت أكثر من خمس عشرة من تلك الأقراش من ذلك النوع قابعين علي القاع، وعند رؤيتنا بدءوا في التحرك أفرادا وجماعات في ريتم غريب فقد كان “السيرج” رهيبا رغم العمق والبعد عن الشاطئ، والسيرج لمن لا يعرف هو حركة الماء بانتظام كبندول الساعة يمينا ويسارا، وعليه فإنك إذا أردت الثبات تحت الماء فيجب أن تقوم بالركل في اتجاهين متضادين بصفة تبادلية دورية وهذا ما فعلته، ولم ألبث أن هجمت علي القروش أصورها في نشوة غريبة وبعد دقائق تنبهت فنظرت حولي فلم أجد غيري، فنظرت خلفي فإذا المرشدة الأسترالية وهي مدربة PADI مختبئة خلف إحدي الصخور بالقاع ومعها باقي الغواصين، قمت باحترام نفسي ولزمت جانبهم أراقب القروش من بعيد، وبدأنا في الصعود بجوار العوامة كل واحد بمفرده وإذا بالقارب ينتشل من يصل إلي السطح في ثوان معدودة في حرفية يحسد عليها قائده، أتممنا غوصتنا ثم رجعنا إلي الشاطئ مستغلين الأمواج حتي شحط بنا القائد علي البر أمام مركز الغوص وكان قد ترك الماكينات دون تثبيتها فكانت ترتفع تلقائيا للخلف عند الإصطدام بالقاع، صار الغواصون بعد الغطسة يمتدحون الرؤية البديعة التي كانت بالنسبة لي بشعة، وطبعا دفء الماء الذي كان متجمدا بالنسبة لي فقد كانت درجة حرارته 18 درجة.
أكملت الرحلة بنجاح حتي عدت إلي القاهرة ولكني طبعا ألغيت غطسة القفص فقد كانت درجة حرارة الماء في كيب تاون 12 درجة.
لم أرجع إلي جنوب أفريقيا حتي عام 2006 عندما قررت القيام بأجازة لمدة أسبوعين مع أسرتي هناك، طرنا إلي جوهانسبرج حيث قمنا باسئجار سيارة واستمتعنا بجولة طويلة ممتعة مررنا فيها ببريتوريا وسانتا لوتشيا وحدائق كروجر المفتوحة ودربان وطريق الحدائق الشهير وانتهت ب كيب تاون فسلمنا السيارة هناك ثم طرنا إلي جوهانسبرج لنستقل الطائرة راجعين إلي القاهرة، كانت بحق هي أجازة الأسرة الأمتع علي الإطلاق ولم تحدث لنا فيها أي مغامرات اللهم إلا في كيب تاون عندما قفز قرد ذكر من نوع البابوون طويل الأنياب داخل السيارة من أحد نوافذها فجلس علي حجر عبد الحكيم ابني وأجبرنا جميعا علي الفرار من السيارة وترك القرد بمفرده ليأكل الشيبسي والفواكه الموجودة!