
في أواخر الثمانينات، كنت أدير مركز الغطس في قرية مجاويش بالتبادل مع الدكتور وائل ناصف، فكان كل منا يقضي خمسة عشر يوما في الغردقة وباقي الشهر في القاهرة في مركز القاهرة لطب الأعماق، وأثناء إحدي مناوباتي في شهر رمضان استدعاني الراحل العزيز الأستاذ مصطفي عدلي، وكان مديرا للقرية في تلك الفترة، وأخبرني أنه جاءه استعلام من أحد معارفه أو أقاربه عما إذا كانت مجاويش لديها غواصين ممن لهم القدرة علي الغوص لعمق خمسين مترا، فأجبت بالإثبات فطلب مني أن أتواصل مع قريبه لعلها تكون فرصة لتحقيق دخل إضافي.
المهمة السهلة Easy Job
تمت المكالمة مع قريب الأستاذ مصطفي، ولا أذكر اسمه، ولكني سأشير إليه في المقال ب “مستر شين” فأكد لي أن الوضع بسيط، فهناك دفة لمركب شحن كبير قد سقطت علي القاع في منطقة العين السخنة، والمطلوب منا أن نغطس لتحديد مكانها وتعليمها ليتم تصبينها (أي ربطها) ورفعها بالونش، فشركات الغطس التجاري بالسويس لا يقومون بالعمل علي مثل تلك الأعماق، وأكد أن الأمر هين لأن الموقع محصور في بضعة عشرات من الأمتار المربعة ولن يستغرق إيجادها سوي دقائق معدودة سيجزل معها العطاء، فكان الأمر برمته مغريا لم نستطع مقاومته!
تداولت الأمر مع العاملين في مركز الغطس بمجاويش فجاء القرار أن أذهب أنا وعادل حمدان رحمه الله بينما يبقي أيمن طاهر وهاني كامل في المركز لإدارته، تم إعداد عدة الغوص خاصتنا واتصلنا بالعزيز “تركي” وكان أحد سائقي مجاويش المخضرمين، واتفقنا أن يقلنا بسيارته البيجو الخاصة إلي السويس والعودة بنا بعد انتهاء المهمة، انطلقنا صائمين في الصباح الباكر وقابلنا “مستر شين” في الميناء بالسويس، فقادني وعادل حمدان إلي لنش سويسي تمتلكه الشركة الوكيلة عن مركب الشحن فاقد الدفة، وانطلق جميعنا إلي منطقة العين السخنة لأداء المهمة “السهلة”، وفي الطريق تبين لنا تدريجيا أن مستر شين ليس بالمقاول البحري بل أنه ربما لم يركب البحر من قبل.
No Cure No Pay
وصلنا إلي مكان البحث في بحر شديد الهدوء فراعنا ما وجدنا، كان المكان أشبه بخلية النحل فالعديد من اللنشات تروح وتجيء فيه لتغطية مساحات ليست بالقليلة، بعض اللنشات كان “يبشلل” أي يجر وراءه علي القاع بشليلات علها تتعلق بالدفة المفقودة فيحددون مكانها، وبعض اللنشات الأخري ومنها لنش الكابتن نادر رياض كانت تدور في المكان بكاميرات ساقطة في محاولة يائسة لرؤية تلك الدفة، وكان الكل يعمل بنظام (No cure no pay) أي أنهم لن يتقاضوا مليما إلا عند انتشال الدفة.
الحكاية
جلسنا هناك نستمع إلي القصة الحقيقية للأحداث من أحد المقاولين الذي أفاد أنه قد كانت مركب الشحن تعبر قناة السويس من الشمال إلي الجنوب تقطرها إحدي قاطرات الهيئة فحدث أن جنحت فاصطدمت دفتها بالأستار الحديدية المبطنة لجانب القناة فأصابها العطب فتم قطرها إلي الغاطس في العين السخنة ثم طرحت مخطافها، وقامت شركة الشحن المالكة بمخاطبة شركات هيئة القناة لإصلاحها فجاءت مقايسة التكاليف مبالغ فيها، وعليه فقد قررت شركة الشحن قطر المركب إلي دبي أو حتي بنما لتقليل التكلفة، وبالطبع لم يمكن قطرها بوجود الدفة المعطوبة لأنها تجنح مستعرضة، فطلبت الشركة المصرية الوكيلة من أحد مقاولي الغطس والأعمال البحرية بالسويس، وأظنه البرديسي، أن يقوم بقطع الدفة.
بدأ البرديسي بقطع جزء الدفة المغمور بالماء ثم شرع في قطع الجزء العلوي بعد تصبينه بوايرات سميكة في ونش المركب، وبعد تمام قطعها أبت الدفة أن تسقط، فلما يئسوا منها وجنح الظلام رأوا أن يتركوها حتي الصباح، وفي أثناء مغادرتهم سمعوا فرقعة شديدة فإذا بالدفة تسقط فتقطع الوايرات التي لم تتحمل ثقلها فهوت إلي القاع، قام البرديسي مسرعا بالغطس شبه الليلي وراءها حتي 50 متر (بسهولة) فوجدها ثم ربطها بواير وجربوا استخراجها بالونش فلما صارت في الهواء انقطع الواير مرة أخري فسقطت وهوت إلي القاع وفي تلك المرة قرروا تركها للصباح.
في الصباح التالي لم يستطع الغواصون أن يحددوا موقعها فهناك مشكلة عظيمة، مركب الشحن طوله يقرب من المائة متر، وسلسلة مخطافه طولها أكثر من 120 متر وهو دائم الدوران مع الريح حول المخطاف، فإذا تغير اتجاه الريح قليلا تغير وضع مؤخر المركب مئات الأمتار، صارت المشكلة تتفاقم وصار عدد الباحثين يزداد وكان يومنا هناك هو يوم البحث الثالث، مع كل تلك التفاصيل أسقط في أيدينا فقد علمنا أنه لا عمل بل لا مكان لنا أو حتي سبب لوجودنا هناك، وصرت ألوم نفسي قائلا: “مالي والغطس التجاري؟ صحيح من خرج من داره اتقل مقداره”، قام مستر شين بالإتصال بقبطان المركب باللاسلكي ليستعلم عن اتجاه الريح يوم سقطت الدفة فأحاله إلي بعض البحارة وصارت أشبه بالكوميديا الساخرة فهم يتكلمون لغات غريبة فبعضهم كوري وبعضهم فلبيني وبعضهم دون ذلك.
الزعانف في الرمل
أخيرا قال مستر شين “أعتقد” أن اتجاه الريح في ذلك اليوم كان كذا وكذا، وأضاف أننا يجب أن نغطس في أي الأحوال حتي نستخلص أي مبلغ من المال يغطي تكاليف الرحلة، قمت وعادل بالغطس في أي مكان بعيدا عن حمي اللنشات المتقاطعة وكانت خطتنا أن ننزل للقاع فنمرغ الزعانف في الرمل وننهي وقفات الديكو ونصعد للسطح فننظر ماذا يصير بعد.
أنهينا الغطسة عند العصر، ولم يتمالك عادل نفسه فأفطر علي سيجارة لرخصة السفر، بينما انتظرنا في اللنش السويسي الذي ربط أخيراعلي جانب مركب الشحن، جاء موعد الإفطار فصعد كل الأفراد الموجودون علي اللنش لتناول الطعام علي المركب ولم يبق غيري وعادل ومستر شين، وجدت بعض الماء ولكنه كان بطعم السولار فأخذت رشفات وانتظرت أن يتذكرنا أحد، وأخيرا لمحت أحد البحرية ينزل إلينا فانتظرت أن يأتينا بطعام أو يدعونا للصعود ولكنه أخذ طباخ جاز كان موجودا ليقوم بإعداد الشاي ….فوق!
إفطار فاخر
دخل بنا اللنش أخيرا السويس في التاسعة مساءا، وكانت أطول فترة صيام في حياتي، وقام مستر شين باستضافتنا، ومعنا السائق تركي الذي كان لم يفطر بعد، في أحد مطاعم السمك الفاخرة وكانت وجبة لا تنسي بعد طول عناء وحرمان، وصار شغلنا الشاغل بعدها أن نحاول استخلاص أي مبلغ من الشركة الوكيلة لتغطية المصروفات فلم يكن أي منا يطمع في ربح، وبعد ساعتين في مكتب الوكيل قام مستر شين بإقناع الوكيل، ولا أدري كيف؟!، بدفع مبلغ صغير قام بتغطية وقود السيارة ودخان عادل حمدان رحمه الله، ودعنا مستر شين شاكرين له ما فعل متفقين ومتمنيين ألا نري بعضنا البعض مرة أخري تحت أي ظرف ودخلنا الغردقة ثم مجاويش في فجر اليوم التالي.