في منتصف شهر ديسمبر 1991، وفي أواخر فترة عملي بقرية مجاويش وأثناء الإستعداد للإنتقال إلي شرم الشيخ في أول يناير، وردت أنباء عاجلة في منتصف إحدي الليالي العاصفة تفيد بغرق عبارة مزدحمة بالركاب جنوب سفاجا، أثناء رحلة عودتها من جدة إلي ميناء سفاجا، وهي العبارة الشهيرة “سالم إكسبريس”، لم تكن تفاصيل الحادث معروفة لدينا، ولكن ما تردد بعد ذلك أن الربان “حسن مورو” رحمه الله قد قرر لسبب ما أن يدخل الميناء من الجهة الجنوبية بعكس المعتاد، فاصطدم مقدم العبارة الأيمن بشعب “الشحر”، الذي أحدث به ثقبا كبيرا أدي إلي ميل العبارة علي الجانب الأيمن، ثم اختفائها تحت الماء في وقت قصير نسبيا نتيجة لتدافع الماء في باطنها وصارت ترقد علي عمق 35 متر تحت السطح علي الجانب الأيمن، و تبعد عن الشعب بحوالي 30 متر, ويقع شعب الشحر المذكورعلي بعد حوالي الساعة والنصف من سفاجا في جهة الجنوب.
ولما كانت العبارة عند اصطدامها تقترب من الميناء، فإن الكثير من الركاب كانوا بالفعل علي السطح، وقد قفز أو سقط بعضهم في الماء عند الإصطدام، وبعضهم الآخر قد مكثوا حتي أيقنوا أن العبارة تغرق فقفزوا عندها، أما الباقي فقد غرقت بهم العبارة وهم داخلها، وعليه فإن الجثث كانت متناثرة في العبارة وحول العبارة وحول الشعب، هذا غير من استطاع البقاء علي سطح الماء فنجا منهم عدد قليل، أدرك البر جنوب هذا الموقع أو تم انتشاله في الصباح الباكر بينما غرق الكثيرون منهم نظرا لحالة البحر ودرجة البرودة في أماكن لا يمكن تحديدها، هذا ولا يعلم العدد الكلي للمفقودين لأن العبارة لسوء الحظ كانت قد فتحت الأبواب للركاب في ميناء جدة فصعد منهم عدد كبير بدون حجز فلم يمكن حصرهم أو كذلك سمعنا، وقد قدرت أعدادهم بما يزيد عن الألف وخمسمائة راكب والله تعالي أعلم!
وفي اليوم التالي حاولنا التواصل مع السلطات للوقوف عما إذا كان هناك مايمكن أن نقدمه كمجتمع للغواصين في الغردقة وسفاجا، ولكنا قوبلنا بالرد أن القوات البحرية تمنع الغوص في منطقة سفاجا في ذلك اليوم لسوء الأحوال الجوية، ونما إلي علمنا أن بعض الصيادين وبعدهم بعض لنشات الغوص بمراكز سفاجا، قد تمكنوا في الصباح الباكر من انتشال بعض الأفراد السابحين من فوق موقع العبارة وحول الشعب وجهة الجنوب، وفي الليل وصلتنا أنباء من السلطات أن القوات البحرية ستقوم بعمليات الإنتشال في صباح اليوم الثالث وتهيب بالغواصين المدنيين ممن يرغبون في المساعدة أن يكونوا في الموقع في ذلك التوقيت.
تم إبلاغنا جميعا أن نكون علي سقالة ميناء سفاجا في الصباح الباكر، ووجدنا لنش سفاري فخم نسبيا يحمل اسم تيران وقد تبرع به مركز “جنة سفاجا” مجانا للمساعدة، وعليه الريس القدير “حسن سعيد” رحمه الله وقد تصدر للمهمة، وحسن سعيد هو الأخ الأكبر للريس أحمد سعيد المذكور في الحلقة الأولي “الثيسلجورم”.
بالطبع لا تسعفني ذاكرتي لتعديد من كانوا علي اللنش متطوعين ولكني سأحاول جاهدا أن أتذكر، فمن المصريين كان محمود القرش وحسن الفولي رحم الله كليهما، ومحمود إبراهيم وخالد نجيب وعصام حسن وهاني كامل وأيمن حسن طاهر وبالطبع القبطان علاء نصر من القوات البحرية وأنا، ومن الأجانب أذكر أن كل مراكز الغوص في سفاجا قد أرسلت غواصين للمساعدة لا أذكرمنهم إلا روبرت فورتنر، أما كارين أوبستال رحمها الله فقد جاءت من شرم الناقة فلم تسمح لها البحرية بالغوص لأنها كانت السيدة الوحيدة فبقيت علي اللنش!
وصلنا إلي موقع الحدث في جو لا يقال عنه إلا أنه عاصف وكان المنظر شنيعا مأسويا، شنط وبضائع ومأكولات تطفو علي سطح الماء، رماصات بحرية ومراكب إنقاذ مقلوبة لم يتسن لها أن تنفتح فتنقذ مخلوقا، بعبارة أخري كان منظرا يعصر القلوب، وفي وسط ذلك كله جثثا طافية تنتظر من ينتشلها بعضها فوق الموقع وبعضها مضي مع الريح، والمعروف أن جثث الغرقي تغوص إلي القاع حتي تبدأ في الإنتفاخ، ولكن انتفاخها يتفاوت زمنه حسب بنية جسم الغريق وجنسه، فتطفو النساء قبل الرجال والبدناء يطفون قبل النحفاء وهكذا، المهم تجهز كل منا لتلك المهمة الثقيلة وقضينا يومنا نجمع في الجثث من علي السطح ومن القاع وفي وسط الماء ومن داخل العبارة وكان المنوط بحمل الجثث هو اللنش السويسي “مستوره يابانو” الذي خصصه مركز غطس “دكس” في سفاجا، فكان الغواص يصطحب الجثة إلي السطح فيقوم زودياك من القوات البحرية بتسلمها منه ثم يقوم بدوره بنقلها إلي اللنش يابانو الذي يقوم بتوصيلها إلي الميناء ليتعرف عليها أهالي المتوفين الرابضين فيذهبون بها لدفنها، بينما ترسل الجثث غير المتعرف عليها إلي مشرحة زينهم بالقاهرة.
وهكذا انقضي اليوم الأول ولم أتمكن من الذهاب في اليوم الثاني ولكني أجمعت أمري فذهبت في اليوم الثالث والأخير مصطحبا معي سكوتر مما يستعمل تحت الماء، وقمت بالغطسة الأولي علي القاع بجانب العبارة فجمعت ما شاء الله لي أن أجمع من الجثث، كان الوضع أصعب وكانت الجثث أكثر انتفاخا، منها ما انحشر داخل القمرات فلم يمكن إخراجه حسب إفادة العزيز عصام حسن، وأذكر أنني دخلت كابينة القيادة مع هاني كامل فوجدنا جثة القبطان حسن مورو رحمه الله مع بعض الجثث الأخري وقام هاني باصطحابها إلي السطح، وفي استراحة ما بعد الغوصة الأولي غطست وحدي مستخدما سكوتر مجاويش بنية جمع ما أستطيع من جوازات سفر لتسليمها إلي السلطات ليتم حصر الموتي ممن لم يتم إدراجهم في قوائم العبارة، فلاحظت أن الكثير من الجثث مازالت عالقة علي الشعب وأننا بحاجة إلي الغوص علي الشعب وليس بجوار العبارة لجمع تلك الجثث، فتطوع معي القبطان علاء لأداء تلك الغوصة وجهزنا حبلا طويلا واسطوانة سعة 15 لتر قمت باسقاطها علي باب جاراج العبارة لاستعمالها في وقفات الديكو عند رجوعي، لأني كنت الوحيد الذي قام بتنفيذ 3 غوصات طويلة في عمق 35 متر، الخلاصة أنني اتفقت مع القبطان علاء أن أقوم بتجميع الجثث في مكان معين، فيقوم هو بربطها من وسطها بالحبل الطويل تاركا بين كل جثة وأخري ما يكفي من الطول لكي لا تعلق الجثث أثناء رفعها علي اللنش يابانو، هذا وقد قمت بجمع 24 جثة غير جثة طفلة صغيرة كانت تلبس فستانا أحمرا جميلا لم يملك القبطان علاء إلا أن يمسكها بيده ليناولها إلي الزودياك بدلا من ربطها مع باقي الجثث، كنت قد وجدت علي العبارة حبلا من النايلون الأحمر مما يستعمله المسافرون في ربط الحقائب فاحتفظت به، فلما فرغنا من ربط الجثث ولم يكون طول الحبل الأصلي كافيا قمت بتوصيل الحبل الأحمر إلي طرف الحبل الأصلي، وناولته للقبطان علاء ليناوله بدوره إلي الزودياك فيتمكن من سحب الجثث إلي أعلي ورفعها علي اللنش، ورأيت أنه من الأفضل أن أتربص في مكاني للمساعدة فإن الجثث تتعلق بالشعب أثناء رفعها فانتظرت لأقوم بتسليكها، وقفت أراقب علاء من أسفل منتظرا أن يكمل وقفة الديكو طبقا لجدوله وفي يده البنت الصغيرة، وأخيرا صعد للسطح مناولا الحبل للزودياك، وبدأ الزودياك فعلا في جذب الحبل وأخذت الجثث طريقها إلي السطح ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان، فقد سقطت الجثث كلها علي القاع مرة أخري ولا أدري أبسبب انقطاع الحبل أم أن أحدهم قد أفلته راغما أو عامدا!
تفحصت ضغط هوائي فوجدته 25 بار فقط، فتركت ذلك كله متجها ناحية العبارة فوجدت جثة أخري لم يطاوعني قلبي أن أتركها فحملتها مسرعا وربطتها من رسغها في طرف الحبل الآخر وعندها بدأ الهواء يثقل في المنظم، فقللت العمق إلي 18 متر هو عمق باب الجاراج وسبحت ناحية العبارة كما اعتقدت فلم أكن أراها لضعف الرؤية وخفوت الضوء، فكان غروب الشمس قد صار وشيكا، وبدأ الهواء يصبح شبه مستحيل التنفس وصرت أقول لنفسي إذا لم أجد الإسطوانة واضطررت إلي الصعود إلي السطح بكمية النيتروجين هذه فسأكون من الهالكين، وإذا لم أصعد فسأكون من الغارقين، وفي وسط هذه الهواجس لاح لي خيال العبارة وصدق أو لا تصدق كنت أمام باب الجاراج وأمكنني رؤية الإسطوانة “من قال أن زمن المعجزات قد انتهي”؟
إلتقطت المنظم وصرت ألهث حتي استهلكت 50 بار في 3 دقائق، ثم صعدت ممسكا بحبل اللنش وبدأت في وقفات الله أعلم كم طالت، فقد كان عندي الإستعداد أن أبلع ثلاثة اسطوانات أخري ولكني ما راعني إلا أن الريس حسن قد أدار المكن، والبحرية يحلون الحبال وصار من المحتم أن أصعد، لم أدر كم من وقت الديكو قد ضيعت فلم يكن عندنا وقتها كمبيوترات، ولم أخطط أن أمكث مثل كل هذا الوقت علي هذا العمق، لكن ما طمأنني قليلا هو أننا كنا في طريقنا إلي مجاويش حيث توجد غرفة الضغط، وأنه بعد حوالي الساعة كنت مازلت متماسكا لا أعاني من أية أعراض اللهم إلا إرهاقا يمكن تفسيره بالمجهود المبذول.
وصلنا إلي الميناء ووجدنا أسر الضحايا من كل المحافظات ينتظرون جثث ذويهم، وقد مكثوا في الميناء أياما بأبنائهم ونسائهم في ظروف متدنية وبرد شديد، مما جعل الموقف عبثيا للكثير منهم فصاروا لا يريدون إلا إنهاء تلك المأساة بأي ثمن والعودة إلي ديارهم وأشغالهم، لدرجة أني رأيت ثلاث أسر يتصارعون علي جثة رجل تزعم كل أسرة أنه منها رغم أنه … فلبيني الملامح!
قمت بقيادة سيارتي ال 128 بصحبة أيمن طاهر إلي الغردقة، وبعد 5 دقايق طلبت منه تولي القيادة فلم أكن أستطيع مقاومة النوم، وانتبهت علي صوته قائلا ياللا يادكتور إحنا قدام الشاليه في مجاويش، فقمت بصعوبة واستلقيت علي سريري حتي الصباح، ولكنه لم يكن صباح اليوم التالي بل الذي يليه، لم أتخيل أنني نمت حوالي 36 ساعة وقد فشلت كل المحاولات في إيقاظي، الحمد لله لم تكن عندي أعراض أخري وعلي الأقل فقد علمت صورة مرض تقليل الضغط الذي ينتابني واستطعت أن أربطه بحال مماثل حدث لي في شرم الشيخ عام 1985.
أعلنت القوات البحرية أنهم قد أقفلوا باب الغوص لانتشال الجثث علي العبارة، ثم قاموا بانتشال الجثث المربوطه صباح اليوم التالي وبعثوا لي بالحبل الأحمر الصغير الذي ثبته بعد ذلك في كهف الوايت ليدي في وودهاوس بتيران، وقد استمر إغلاق الغوص علي العبارة رسميا حوالي السنة مراعاة لحرمة الموتي، وعندما فتح الغطس عليها أذكر أنني ذهبت مرتين أو ثلاثة، فلم تكن بالنسبة لنا بالمكان المفضل لأننا عاصرنا فزع وآلام من استشهدوا فيها، ولكن الأجيال ممن لم يشهدوا تلك القصص يستمتعون بالغوص، ويتسلون بمشاهدة وتصوير شنط الهدوم ولعب الأطفال وأجهزة الكاسيت والمراوح الكهربائة المبعثرة، التي كانت جزءا أصيلا من أحلام قوم قد عاشوا ثم قضوا وتركوها تشهد علي إهمال جسيم وحظ عاثر ومأساة شعب يتغرب عن وطنه و أهله ليجد لقمة عيش كريمة، فلا يجد إلا هوانا ثم هلاكا.
يبقي أن أقول إنه قد كثرت الأقاويل علي بعض ممن ساهم في تلك المأساه، بأنهم قد سطوا واستولوا علي نقود الغرقي ومتعلقاتهم، فإني أشهد الله تعالي أني لم أر أي منهم يفعل ذلك ولم يظهر علي أحدهم بوادر نعمة ما، اتقوا الله في أعراضهم خصوصا من قضي نحبه منهم.