fbpx
رحلات غوص

حكايتي مع الـ “وايت ليدي”

حكايات غطاس عجوز ... الحلقة الخامسة

في منتصف عام 1992 أثناء فترة عملي الثانية في شرم الشيخ، قررت أن أنفذ غوصة “دريفت” جديدة من شعب وودهاوس في مضيق تيران حتي جنوب شعب جاكسون، قاطعا الممر بينهما متفائلا باستحداث غطسة جيدة قد يتم تعميمها بعد ذلك، وانتهزت فرصة أن لنشنا “سي ستار 1” كان يقوم بتنفيذ رحلة إلي الجاكسون، فاصطحبت “مارك”، وكان أحد المرشدين البريطانيين العاملين لدينا، وقمنا بالتجهيز واتفقنا مع الريس أن يسقطنا في الثلث الشمالي من الوودهاوس ويستأنف رحلته إلي الجاكسون فيربط كالعادة علي أن نلحق به هناك بعد إتمام غطستنا.

غوصة “دريفت”

وفعلا بدأنا الغطسة بجوار الشعب، وعلي عمق 35 متر ظهر ما يشبه الكهف، قررنا ببساطة استكشافه فكان يدخل الي وسط الشعب، ثم ينقسم إلي ما يشبه الأنبوبين شمالي وجنوبي يسيران بامتداد الشعب، قمنا سريعا باستكشافهما وظهر لنا وقتها أن كليهما مع اختلاف طولهما مسدود في آخره، فخرجنا عائدين ثم قطعنا الممر حتي انتهينا جنوب الجاكسون حيث يربط اللنش، فأتممنا الغطسة برضا وسرور فقد كان الممر بين الشعبتين متميزا بغابات من الشعب النارية لم أر مثلها، وفي الأيام التالية صار مارك يختال علي باقي الغواصين في المركز بغطسته مع “المدير”، مما اضطرني أن أعدهم أنني سوف أصطحبهم واحدا تلو الآخر عندما تسنح فرصة مماثلة.

إلى الكهف مرة اخرى

وبعدها بأيام كان نفس اللنش متجها مرة أخري إلي الجاكسون، وكان الدور في مصاحبتي يقع علي إحدي المدربات وهي سيمون من جنوب أفريقيا، والتي استأذنت في اصطحاب صديقة لها وهي مدربة ألمانية تدعي “أليكس” وتعمل في أحد مراكز الغوص الأخري في الشرم، فانطلقنا وكانت المدربة علي اللنش والموكلة بتنفيذ غوصة الزبائن في الجاكسون هي الإبنة العزيزة “عزيزه عمر”، أنزلنا الريس في نفس المكان، وكانت الخطة أن نقوم بتنفيذ نفس السيناريو وكل منا يحمل اسطوانة هواء سعة 12 لتر ولا يوجد مع أي منا “كمبيوتر”، ولكننا في هذه المرة قد اصطحب كل منا كشاف إضاءة لا بأس به.

وكالمرة السابقة دخلنا الكهف ثم الأنبوب الجنوبي، ووصلت سيمون أولا إلي االنهاية المسدودة فاستدارت نحوي وأشارت بالكشاف إشارة OK، فرددت بنفس الإشارة غير مدركا ماتعنيه فإذا بها تختفي عن ناظري وبعدها أليكس، أسرعت خلفهما فإذا بممر ضيق خلف ماظننته سددا وكلتا المدربتين ماضيتان في التوغل فيه إحداهما خلف الأخري كأن هناك مغناطيسا يجذبهما، وأيقنت وقتها أن سيمون بإشارتها OK كانت تسألني هل أدخل؟.

المتاهه

هذا الأنبوب الضيق صار يزيد عمقا وظلاما كلما توغلنا فيه، فانتهزت فرصة أنه قد اتسع قليلا فتقدمت الفريق متوغلا، وبعد وقت ليس بالقصير انتهي هذا الأنبوب عند عمق حوالي 80 متر في ما يشبه الغرفة الواسعة، فقمت بسرعة بالنزول إلي قاعها فسجل عداد العمق 87 مترا، استدرت بعدها صاعدا إلي مصب الأنبوب وأشرت للمدربتين أن هيا فدخلتا وأنا من ورائهما، وأثناء رحلة العودة وكنا علي حوالي 60 متر تقريبا، وقفت أليكس التي كانت في المقدمة مرتبكة لأنها رأت أن الأنبوب ينفلق إلي فرعين فلم تدري أتتخذ الأعلي أم الأسفل، فأشرت إليهما أن امكثا مكانكما وأسرعت بدخول الفرع العلوي، فإذا به مسدود فقفلت بسرعة راجعا وأشرت أن اتخذا الممر السفلي.

خريطة لكهف الوايت ليدي، رسمها الكابتن محمد موسى

وبعد وقت مر كالدهر بدأنا نري ضوء المخرج وكانت المعجزة الأولي، فلم ينفذ هواء أي منا، نظرنا سريعا إلي مقياس الهواء في الإسطوانات بعد الخروج فكنت أقلهم، كان معي حوالي 35 بار بينما كان مع إحداهما 40 والثانية 45 بار، بالطبع تم تغيير الخطة بالكامل وقمنا بالصعود علي نفس الشعب “وودهاوس” لا يحرك أحد منا ساكنا بينما نكاد نمص الهواء مصا لندرته، وقررت عمل وقفات عشوائية فلم يكن لدينا أدني فكرة عن زمن الديكو المطلوب فنحن لم نخطط لهذا العمق ولا يوجد كمبيوتر ليدلنا، الخلاصة أن الخطة صارت استهلاك 15 بار من الإسطوانة علي عمق 6 متر وآخر 15بار علي عمق 3 أمتار، وصدق أو لا تصدق في مثل هذه الأحوال فإن 15 بار من إسطوانة 12 لتر علي عمق 3 أمتار ممكن أن تكفيك نصف ساعة عند الدخول فيما يشبه حالة التجمد!

سي ستار 

بدأت أحس بثقل الهواء وأيقنت أنه قد حان وقت الصعود، فبدأت في التوجه إلي السطح تاركا الفتاتين بما بقي معهما من هواء، وخلعت زعانفي فلبستهما في يداي ووقفت علي الشعب ثم استدرت استعدادا للتلويح بالزعانف لجذب أحد اللنشات العابرة، نظرا لأن سي ستار 1 كان مقدرا أن يكون رابطا في جاكسون مع غطاسينه متوقعا أن نلحق به حسب الخطة، وهنا حدثت المعجزة الثانية، فإني فور التفاتي رأيت اللنش سي ستار 1 يمر من أمامي مباشرة متجها ناحية الجاكسون.

كدت أطير من الفرح وصرت ألوح بهستيرية وكانت عزيزة علي جانب اللنش تنظر إلي بدهشة، بينما تخبر الريس أن يتجه إلينا فأشرت إليها أننا نحتاج اسطوانات بمنظمات أخطبوطية والتي تم إعدادها في دقيقة واحدة، وقذفت إلينا فهبطت بأحدهما مع سيمون التي كانت قد وصلت السطح بعدي أما أليكس فقد أخذت الإسطوانة الأخري ولحقت بنا، نزلنا في وقفات ديكو تخيلية بدأناها من 12 متر صعودا حتي 3 متر، وأخذنا وقتنا وانتهيت أنا وسيمون فغادرنا الماء بينما قفزت عزيزة إلي الماء لدعم أليكس فيما تبقي لها من وقت تقديري، ولا تسعفني ذاكرتي الآن عن ملابسات وجود اللنش سي ستار 1 المعجز في غير مكانه وأعتقد أن عزيزة عمر يمكن أن توضح هذا اللبس.

الحبل الأحمر

وأظن والله أعلم أنني كنت أول من دخل إلي هذه “الحفرة” فلم يصفها أحد قبلي، وقد قمت بعدها بالغطس فيها ثلاث مرات كلها قي سنة 92، مرة منهم مع عبد المجيد شريف “جيدو” رحمه الله، والأخري مع محمود حلمي رحمه الله، والأخيرة مع أخي دكتور وائل ناصف شفاه الله وعافاه، وطبعا كانت خطة واستراتيجية ومعدات الغوص في الغوصات الثلاث مختلفة تماما عن المرة الأولي، ومما أذكر أنني في إحدي تلك الغوصات، قد قمت بتثبيت حبل من النايلون الأحمر علي امتداد الأنبوب من مدخله إلي الغرفة العميقة لمساعدة من يغوصون فيه علي الإهتداء للطريق، خصوصا عند الخروج، وهذا الحبل كنت قد وجدته أثناء عمليات الإنتشال في سالم إكسبريس، ثم احتفظت به وأراد الله تعالي أن يكون له نفع بعد ذلك.

كهف “الوايت ليدي”

لم يسعفني الحظ أن أكرر تلك الغطسة منذ ذلك الوقت حتي اليوم، ولم أتحدث عنها كثيرا احترازا من أن يحاول أحدهم تنفيذها فيصيبه خطب ما، ولكن حدث أني عندما كنت أتجاذب أطراف الحديث من أسابيع مع بعض الأصدقاء في مرسي شجرة، ذكر أحدهم وهو العزيز “سليم كفافي” كهفا يسمي “وايت ليدي” تم اكتشافه في وودهاوس منذ سنوات قليلة، ثم تطوع أن يريني أحد الفيديوهات له علي اليوتيوب، ولا أستطيع أن أصف لكم كم كنت متحمسا لرؤيته ولا كم سعدت وشعرت بالفخر عندما رأيت الحبل الأحمر مازال صامدا وظاهرا في الفيديو طوال الطريق حتي مدخل الغرفة.

طبيعي أن من يقومون بالغوص فيه الآن هم غواصون تقنيون لهم خلفية ومهارة كافية في مجال غطس الكهوف, وهم يقومون باستخدام مخاليط غازية ومعدات متطورة وهو ما يجعلني مطمئنا أنني لن أسمع أن مكروها قد وقع لأحد فيه بإذن الله, ولكنه علي صعيد آخر جعلني أدرك كم كنا بدائيين في ذلك الزمن وكم عرضنا أنفسنا وأحبائنا لكثير من المخاطر لكن الحمد لله إنها جت علي شوية مشاكل بالذاكرة…. ربنا ستر!

Hossam Nassef

دكتور حسام ناصف، استشاري طب الأعماق، يعمل في مدينتي الغردقة ومرسى علم. ويعمل ايضا في مجال التصوير تحت الماء، والسفاري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى