fbpx
رحلات غوص

حكايتي مع هبة الله

حكايات غطاس عجوز

كان المركب “هبة الله” مركبا حديديا قديما اشتراه رجل الأعمال المعروف “المحمدي حويدق” في أواخر التسعينات لغرض في نفسه قد يكون تحويله إلي مطعم عائم أو غير ذلك، كان أول الأمر مربوطا عائما ثم شحط فظل عالقا علي الشعب أمام الشاطئ العام (9) سنوات عديدة في المنطقة بين قرية مجاويش والإنتركونتيننتال، كان هذا المركب في طريقنا البحري عند الإتجاه للغوص شمالا وكنت أراه ذهابا وإيابا وهو يتدهور حاله ويأكله الصدأ ولم يمنعه من الغرق إلا اتكاؤه علي حرف الشعب.

خطر بيئي

وبمرور الوقت صار هذا المركب مقلبا للقمامة وملجأ لتعاطي المخدرات، وصار كحاوية النفايات للتخلص من زيت المحركات المستعمل للنشات الغردقة كما كان يستعمله مقاولوا خيار البحر في غلي وتجفيف الخيار المستخرج تمهيدا لتصديره كبودرة، وفي عام 2004 تم إشهاره كملوث مستمر لماء البحر بالزيت عند ارتفاع المد ونزوله فكان الماء يدخله بأريحية نظيرا للعطب الشديد الذي أصاب بدنه الحديدي، وقد حررت ضده العديد من المخالفات البيئية.

صورة أرشيفية

موقع غوص جديد

وكانت تستهويني وقتها قصة إحياء الغوص في منطقة العقبة بالأردن عن طريق إغراق مركب ثم طائرة برعاية الأمير عبد الله بن الحسين، وكان ولي العهد وقتئذ، فقد كانت أول تجربة للحيد المرجاني الصناعي في البحر الأحمر، وكنت دائما ما أفكر في “هبة الله” علي أنها تصلح أن تكون التجربة المصرية فقد كانت الغردقة في ذلك الوقت في حاجة إلي دفعة في مجال الغوص السياحي بعد أن صارت سمعتها أدني من نظرائها مثل سفاجا وشرم الشيخ لكثرة أعداد الغواصين وتدمير الشعب المستمر بها.

وفي عام 2004 خصصت المعونة الأمريكية مبلغا من المال للجمعيات الأهلية غير الحكومية، منها جزء للهيبكا تحت بند تثبيت العوامات، والجزء الآخر لجمعية البحر الأحمر بشرط التقدم بمشروع يفيد مجال الغوص في البحر الأحمر، وكان من المشروعات المقدمة إغراق مركب لعمل حيد ريفي جديد في منطقة الغردقة، وفعلا تمت الموافقة واعتماد المبلغ للجمعية لتنفيذ المشروع ومشروعات أخري صغيره، وهنا بدأت مشكلة البحث عن مركب مناسب في الشكل والحجم ليسهل اختراقه تحت الماء بدون مخاطرة ثم اختيار المكان والعمق المناسبين له ليكون متاحا لكل الغواصين في مختلف المستويات فالغرض الأساسي منه هو إثراء الغردقة كمقصد عالمي للغوص.

خطة عمل

وأسقط في أيدينا كمجلس إدارة للجمعية، فأسعار المراكب حتي الهالك منها كانت تفوق ميزانية المشروع بالكامل، ولما تردد اسم “هبة الله” كان من السهل إقناع السيد المحمدي بالتبرع بها للمحافظة لما سيحققه المشروع من جذب سياحي، كما أنها كانت قد صارت عبئا عليه تهدده بالمخالفات البيئية المستمرة، وفعلا تبرع بها المحمدي للمحافظة التي تبرعت بها للمشروع برعاية اللواء عادل حجاب نائب (أو سكرتير) المحافظ للشئون البحرية.

وهنا دخل المشروع حيز التنفيذ, وكانت محاوره هي:

– تحديد مكان الإغراق
– تجهيز المركب وإزالة ما به من عوالق وأجزاء حديدية ووضع علامات إرشادية عليه تجعل اختراقه بعد إغراقه سهلا ميسورا للغواص العادي
– تنظيف المركب من بقايا الزيت والقمامة حتي لا يتسبب إغراقه في مزيد من التلوث
– التوصل إلي شركة أو مؤسسة بحرية تقوم بإصلاح العطب وتعويم المركب ثم قطره وإغراقه في المكان المحدد، وهذا البند قد كفانا عناءه السيد المحافظ سعد أبو ريده رحمه الله فقد أسند العملية بالأمر المباشر إلي القوات البحرية وأصدر تعليماته بإعطاء المبلغ المخصص لهذا الجزء من المشروع لهم.

فريق عمل

ولتحديد مكان الإغراق وجب اختيار عدة أماكن تتميز بانبساط القاع وامتداده علي أن يكون عمقها 30 متر تحديدا ليكون الإختراق في عمق يناسب مختلف المستويات، فقام الفريق المعين لذلك بالغوص في الأماكن المقترحة وكنت أنا ومحمد حبيب ومحمود القرش في هذا الفريق مع بعض المتطوعين من أعضاء الجمعية، وأخيرا بعد غطسات في أماكن عديدة تمت الموافقة من البيئة وهيئة العمليات والمحافظة والحدود علي أحد الأماكن ويقع جنوب جزيرة أبو منقار وشمال عروق الجفتون وصار هو المكان المنشود.

وعلي صعيد تجهيز المركب كنت أنا ومحمد حبيب ومحمود إبراهيم من المعينين له وقد استعنا بقسم الصيانة بقرية السندباد الذي تطوع فأرسل مهندسين ولحامين قاموا بقطع الزوائد الحديدية وفتحوا أبوابا كما أزالوا درجات كلها كانت قد تعوق حركة الغواصين أثناء الإختراق، وبعد إتمام المهمة تم وضع حبال وأسهم إرشادية لتدل الغواصين علي مداخل ومخارج المركب.

وعني بنظافة المركب كل من محمد حبيب ومحمود القرش فقد قام حبيب بنقل مئات الجراكن إلي سقالة السندباد وجلب عشرات الجولات من نشارة الخشب لفرشها داخل المركب لامتصاص بقايا الزيت كما قام محمود القرش بنقل الجراكن عن طريق سيارات ربع النقل للتخلص منها.

وهنا يتبقي جزء المشروع الأهم وهو حصر العطب وتعويم المركب ثم قطرها بواسطة القوات البحرية، كانت مشكلة قاطرة البحرية أن غاطسها عميق يصل إلي 5 أمتار فلم يكن دخولها إلي مكان المركب ووصولها إلي مكان الإغراق سهلا ميسورا، فوجب أن نستأجر أحد اللنشات وبه مقياس للأعماق لتحديد مسار العملية واضعين في الإعتبار أن العمق تحت خط السير لن يقل عن 6أمتار بأي حال، وفعلا صحبنا قائد القاطرة علي هذا اللنش مرة لدراسة وتحديد المسار ثم تغير القائد فوجب أن نقوم ثانية بنفس الرحلة بنفس لنش الأعماق لتحديد المسار مرة أخري مع القائد الآخر، ثم جاء أخيرا يوم الإغراق المحدد وكان الجو فيه غير عاصف وإن كانت تهب بعض الرياح الشمالية المتوسطة، وكانت القوات البحرية تعمل بجهد منذ أيام علي سد الأعطاب والثقوب في بدن المركب حتي أعلنوا أنه صار جاهزا للتعويم والقطر، ووضعوا عليه طلمبات غاطسة تحسبا أن يحول دخول الماء دون وصوله إلي المكان المتفق عليه.

يوم التنفيذ

وفعلا قامت القاطرة بسحب المركب من مكانه وتعويمه واضطررت للغوص في موقع السحب مع علي سعد الدين ود.هناء وسارة هليل وكانوا من الحاضرين علي لنش تحديد الأعماق يوم القطر، إضطررنا للغوص لتسليك الحبال التي تشابكت، وأخيرا انطلقت القاطرة تجر المركب في طريقها ونحن نتقدمها بلنش الأعماق لتحديد المسار الآمن، وكان باقي أعضاء الجمعية علي لنش سياحي آخر مع باقي الضيوف والصحفيين يتابعون العملية لتوثيقها، وكان الموقع مجهزا من قبل بحيث يتم إغراق المركب بين أربع عوامات حمراء تجعله في المكان المحدد تماما، وعند الوصول إلي المكان صار باقيا للقاطرة أن تتقدم مائة متر أخري ليصير المركب فوق موقعه تماما.

وهنا حدث ما لم يكن في الحسبان فقد توقفت القاطرة فاستعرضت وصارت ترتطم بالمركب، ثم انقطعت طلمبات النزح وصار غرق المركب وشيكا فاضطر بحرية القاطرة إلي قطع حباله خوفا من أن يجرهم معه إلي أسفل وفعلا شاهدنا المركب يغرق سريعا في غير مكانه المحدد, فلبست عدتي ونزلت سريعا وراءه بعد أن ابتلعه الماء لا أكاد أري كفي لسوء الرؤية نتيجة لغرق المركب وما عليه من أتربة وصدأ, فصرت أتحسس جوانبه ثم وضعت الكمبيوتر علي القاع حيث رقد فوجدت أنه يرقد علي عمق 54 متر بدلا من 30, صعدت إلي السطح حانقا فقد “باظ” المشروع كله وأصبح المركب هو مكان للغوص التقني وليس الرياضي كما كنا نخطط له، أحسست وزملائي بالإحباط وأن تعب الشهور قد ضاع ولكن من يمكن أن نلوم؟

صار الناس يتهمون هذا أوذاك بتهمة تغيير مكان المركب الغارق وكان من ضمن ما قيل إن كريم هلال فعلها عن قصد ليتمكن هو وغواصينه التقنيين من الغوص عليه دون غيرهم، ولم يكن لدينا ما نرد به عليهم إلا أن الله تعالي قدر وماشاء فعل!

 
 
 
 

Hossam Nassef

دكتور حسام ناصف، استشاري طب الأعماق، يعمل في مدينتي الغردقة ومرسى علم. ويعمل ايضا في مجال التصوير تحت الماء، والسفاري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى