في أواخر التسعينات، كنت مازلت مديرا لمركز الغوص في مجاويش الغردقة وفي نفس الوقت عضو مجلس إدارة جمعية البحر الأحمر. صرنا نسمع عن وجود جثة غواص، يُبلغ عنها دوريا من مرشدي وزبائن الغطس في مراكز الغردقة المختلفة منذ شهور، حتي صار الموضوع “حاجة معروفة” أن هناك جثة في “حمده”.
ولمن لا يعرف فإن “حمده” هي مكان جميل للغوص في شرق جزيرة الجفتون الكبير، واقع في ممر يفصل جزيرتي الجفتون عن بعضهما البعض، ولذلك فإنه يسمي أيضا مع غيره من الأماكن المجاورة “بين الجفاتين”.
والغريب في موضوع الجثة هذا أنه لم يتم الإبلاغ من أي قرية أو شركة سياحة أو مركز غطس رسميا عن أي غواص أو سائح أو إنسان مفقود، وبمرور الوقت أصبح الموضوع واقعا لا يمكن إنكاره، خصوصا عندما توجه أحد الزبائن الفرنسيين (أخيرا) ببلاغ إلي حرس الحدود عن تلك الجثة فأصبح رسميا.
أوامر رسمية
وعليه فقد أصدر السيد محافظ البحر الأحمر اللواء سعد أبو ريده رحمه الله تعليمات لجمعية البحر الأحمر بانتشال الجثه وخصص للعملية لنشا تابعا لإحدي الإدارات الحكومية، والحاصل علي جائزة الدولة كأبطأ لنش في البحر الأحمر، والذي قام بدوره بالإقلاع في ظهر أحد الأيام إلي موقع الإنتشال وعلي متنه العزيزين كريم هلال وهشام طموم والعبد لله (أنا يعني)، واختيار هذا التوقيت كان غرضه أن يتم الإنتشال بعد مغادرة لنشات الغوص حتي لا يري السياح مأساة خروج جثة زميل لهم.
وصلنا إلي حمده بعد عناء فربطنا وانتظرنا مغادرة اللنشات وقسمنا الموضع إلي 3 مناطق عشوائية غطس كل واحد منا بمفرده في أحدها، وفي آخر الغوصة عدنا جميعا بخفي حنين فلم يتسن لأحد منا رؤية الجثة رغم أن عمقها كان محددا لنا وهو 70 متر!
فليبر “السريع”
وفي اليوم التالي قمت أنا بالتطوع بلنش مجاويش “فليبر” السريع نسبيا تحت قيادة الأخوين شعبان وأحمد لتوفير الوقت، ولكني بالطبع اضطررت أن أعد الريس شعبان وأحلف له بأغلظ الأيمانات أني لن أضع الجثة في حال استخراجها علي اللنش، لأن أهل البحر يعتقدون بل يوقنون أن طلوع أي جثة علي أي لنش فإن ذلك ينحسه نحسا أبديا ويوقف حاله، وضمانا لتحديد مكان الجثة فقد قامت قوات حرس الحدود بمباغتة السائح الفرنسي وهو يهم بركوب لنش الغطس في الصباح واقتادوه إلينا ليصحبنا ويعين مكان الجثة تحديدا.
وربط فليبر فعلا علي الموقع للقيام بمحاولتنا الثانية وأعددنا عدتنا (كريم وأنا) فلم يكن هناك داع لأن نكون ثلاثة في الماء، كان كريم يحمل علي ظهره اسطوانة مزدوجة، أما أنا فكنت أغطس باسطوانة واحده لسهولة الحركة وفي يدي اسطوانه هواء حديدية سعة 15 لتر لتنفيذ وقفات الديكو المتوقعة.
هذا وقد اصطحبنا معنا أكياس بلاستيكية ضخمة مع حبال للرباط مقطعة لتربيط وتأبيج الجثة، واشترط السائح الفرنسي أن يسبقنا قليلا ليحدد الموقع ثم يرجع إلينا فيشير إلي المكان، وفعلا قابلناه علي عمق حوالي 40 متر صاعدا فأومأ برأسه أن هذا هو المكان ثم تركنا عائدا إلي السطح، واستطعنا أن نري الجثة من حوالي 60 مترا فاقتربنا حتي عايناها علي 72 متر، وكانت بحالة متدنية منتفخة يتضح منها طول بقائها النسبي تحت الماء.
الجثة تشدنا الى السطح
قمنا أولا باصطحاب الغواص إلي عمق أقل لتوفير الهواء وزمن الديكو، ولكننا لم نتمكن من تجاوز عمق ال 40 متر صعودا لأن الغواص كان قد بدأ يتحول إلي موجب الطفو، رغم وجود حزام الرصاص علي وسطه لانتفاخه. فناولت كريم إسطوانة الهواء الزائدة لأنه فضل أن يدعني “أتعامل”، ومن ثم فقد بدأت بربط الغواص من إحدي يديه في الشعب ثم خلعت زعنفتيه فتناولهما كريم، وبعدها خلعت حزام الرصاص منه، فطفت جثته ورجليه لأعلي لأن يده كانت مازالت مربوطة، قمت بإلباسه كيسا من قدميه حتي وسطه وأحكمت الرباط علي قدميه حول الأعقاب، ثم ربطت حبل القدمين في الشعب وفككت حبل اليد فانتصب الغواص واقفا، فقمت بإزالة معادل الطفو والإسطوانة ثم إلباسه كيسا آخر من رأسه حتي وسطه وأحكمت الرباط علي وسطه بكل الكيسين وعلي رقبته فصار جاهزا.
وفي تلك الأثناء كان كريم قد أزال الرصاص من الحزام لما لم يجد به علامات تشير إلي مركز الغوص، ووضع الحزام والماسك والزعانف في أحد الأكياس لغرض التعرف علي مركز الغوص المسئول، بعدها تناولت اسطوانتي واسطوانة الجثة وأمسي كريم مسئولا عن الجثة التي أمسك بها من حبل القدمين فصارت كبالونة الهيدروجين يزداد طفوها كلما قل العمق، حتي كادت تجره جرا إلي السطح متجاوزا تنفيذ وقفات الديكو التي كانت تجاوز ال 40 دقيقة.
فتبادلنا الإشارات أن اتركها يا كريم تصعد، فما راع من كان علي اللنش إلا أن وجدوا مومياء مؤبجه تضرب السطح بمفردها، فقفز من قفز في الماء وجروا الجثة ثم ربطوها من قدميها علي أحد العوامات، بينما كان فليبر رابطا علي الأخري في انتظار اللنش السريع الذي وعدونا بإرساله لينقل الجثة.
في انتظار اللنش
قمت أنا وكريم باستكمال وقفات الديكو ثم صعدنا فوجدنا الوضع حرجا، فالظلام وشيك والجثة مربوطة واللنش لم يظهر وفليبر لن ينقلها، وكان قراري أن سوف نترك الجثة علي الرباط حتي يبعث المسئولون من يأتي بها ولو بعد شهر فأنا “لن أنقلها”، وفعلا غادرنا المكان وتركنا الجثة وحيدة خلفنا ومازالت تطاردنا رائحتها حتي صارت علي مرمي البصر.
وعندما لقطت شبكة المحمول الإشارة في طريق العودة، تلقينا مكالمة من الرائد الكومي بحرس الحدود فمرر لي هشام طموم التليفون ودار بيننا حديث طويل قوامه انه يريد أن يجبر الريس علي العودة بالجثة، ومن الطرف الآخر فإني لن أفعل ذلك مهما كانت التكلفة، وفي النهاية تحولت الأوامر العسكرية إلي رجاء مدني شخصي، أن لو سمحتوا هاتوا الجثه معاكوا عشان الناس كلها واقفة علي السقالة مستنيه وعاوزين ينتهوا من القصة دي!
حل وَسَط
المهم أني أشرت للريس شعبان أن ارجع باللنش إلي “حمده” فنظر لي نظرة كلها عتاب وكأنه يقول “لكن انت وعدتني يادكتور”، فطمأنته وقررت محاولة جر الجثة من قدميها وراء اللنش، ولكنها لم تكن لتحتمل أكثر من 10 دقائق قبل أن تتفشخ أجزاؤها، فهداني ربي إلي حل وسط.
فقمت بتقطيع بعض الأكياس المتبقية وربطها ببعض حتي صارت كالمحفة، وقمنا بربط هذه المحفة علي جنب اللنش في شمعاته فصارت الجثة فوق الماء ولكنها في نفس الوقت ليست علي اللنش، وقمنا بالتوجهة إلي سقالة الميناء السياحي فصار الناس المتجمعون يغادرون الموقع من هول الرائحة حتي قبل أن يدخل اللنش السقالة.
غواص مجهول
لم يستدل حتي اليوم علي شخصية الغواص أو مركز الغوص الذي فقده ثم لم يبلغ وفلت المجرم بفعلته الشنعاء فلم يستطع المسئولون استنباط أي معلومات من المعدات المنتشلة.
تركت العمل في مجاويش بعدها بأعوام قليلة ولم أر الريس وأخاه سنوات حتي قررت انتشال اللنش الغارق في أم جمر سنة 2012 وتلك قصة أخري إن شاء الله.
لقد فعلت ما لم يستطع أحد بهذا العمل ولكن أقول أن هذا هو الدكتور حسام ناصف وأتذكر أن فى أحد الأيام فى الثمانيات فى شرم الشيخ أثناء فترة مركز الغوص رد سى أنك قمت بمثل هذا العمل وأنطلقت بلنش سريع وعدت ومعك جثه غطاس لا أعرف التفاصيل بالضبط ولكنى كنت أشاهد الموقف ,اسئل نفسى هل أى شخص قادر على القيام بهذا العمل بالطبع لا
هو واحد بس دكتور حسام ناصف .